فصل: فصل السلامة في كتاب الله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صيد الخاطر **


  فصل حلاوة الطاعة وشؤم المعصية

كل شيء خلق الله تعالى في الدنيا فهو أنموذج في الآخرة وكل شيء يجري فيها أنموذج ما يجري في الآخرة‏.‏

فأما المخلوق منها فقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء‏.‏

وهذا لأن الله تعالى شوق بنعيم وخوف بعذاب من عذاب‏.‏

فأما ما يجري في الدنيا فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الآجل وكذلك كل مذنب ذنباً وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ‏"‏‏.‏

وربما رأى العاصي سلامة بدنه وماله فظن أن لا عقوبة وغفلته عما عوقب به عقوبة‏.‏

وربما كان العقاب العاجل معنوياً كما قال بعض أحبار بني إسرائيل‏:‏ يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني فقيل له‏:‏ كم أعاقبك وأنت لا تدري أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي‏.‏

فمن تأمل هذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد حتى قال وهب بن الورد وقد سئل‏:‏ أيجد لذة الطاعة من يعصي فقال‏:‏ ولا من هم‏.‏

فرب شخص أطلق بصره فحرم اعتبار بصيرته أو لسانه فحرمه الله صفاء قلبه أو آثر شبهة في مطعمه فأظلم سره وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة إلى غير ذلك‏.‏

وهذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفس وعلى ضده يجد من يتقي الله تعالى من حسن الجزاء على التقوى عاجلاً كما في حديث أبي أمامة‏:‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى‏:‏ النظرة إلى المرأة سهم مسموم من سهام الشيطان من تركه ابتغاء مرضاتي آتيته إيماناً يجد حلاوته في قلبه‏.‏

فهذه نبذة من هذا الجنس تنبه على مغفلها‏.‏

فأما المقابلة الصريحة في الظاهر فقل أن تحتبس ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الصبحة تمنع الرزق وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه‏.‏

وقد روى المفسرون‏:‏ أن كل شخص من الأسباط جاء باثني عشر ولداً وجاء يوسف بأحد عشر بالهمة ومثل هذا إذا تأمله ذو بصيرة رأى الجزاء وفهم كما قال الفضيل‏:‏ إني لأعصي الله عز وجل فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي‏.‏

وعن عثمان النيسابوري‏:‏ أنه انقطع شسع نعله في مضيه إلى الجمعة فتعوق لإصلاحه ساعة ثم قال‏:‏ ما انقطع إلا لأني ما اغتسلت غسل الجمعة‏.‏

ومن عجائب الجزاء في الدنيا أنه لما امتدت أيدي الظلم من إخوة يوسف‏:‏ ‏"‏ وَشَرَوْهُ بِثَمَنِ بَخْسٍ ‏"‏ امتدت أكفهم بين يديه بالطلب يقولون‏:‏ ‏"‏ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ‏"‏‏.‏

ولما صبر هو يوم الهمة ملك المرأة حلالاً ولما بغت عليه بدعواها‏:‏ ‏"‏ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ‏"‏ نطقها الحق بقولها‏:‏ ‏"‏ أَنَا رَاوَدْتُهُ ‏"‏‏.‏

ولو أن شخصاً ترك معصية لأجل الله تعالى لرأى ثمرة ذلك وكذلك إذا فعل طاعة‏.‏

وفي الحديث‏:‏ إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة أي عاملوه لزيادة الأرباح العاجلة‏.‏

ولقد رأينا من سامح نفسه بما يمنع منه الشرع طلباٍ للراحة العاجلة فانقلبت أحواله إلى التنغص العاجل وعكست عليه المقاصد‏.‏

حكى بعض المشايخ‏:‏ أنه اشترى في زمن شبابه جارية قال‏:‏ فلما ملكتها تاقت نفسي إليها فما زلت أسأل الفقهاء لعل مخلوقاً يرخص لي فكلهم قال‏:‏ لا يجوز النظر إليها بشهوة ولا لمسها ولا جماعها إلا بعد حيضها قال‏:‏ فسألتها فأخبرتني أنها اشتريت وهي حائض فقلت‏:‏ قرب الأمر فسألت الفقهاء فقالوا‏:‏ لا يعتد بهذه الحيضة حتى تحيض في ملكه قال‏:‏ فقلت لنفسي وهي شديدة التوقان لقوة الشهوة وتمكن القدرة وقرب المصاقبة‏:‏ ما تقولين فقالت الإيمان بالصبر على الجمر شئت أو أبيت فصبرت إلى أن حان ذلك فأثابني الله تعالى على ذلك الصبر بنيل ما هو أعلى منها أرفع‏.‏

  فصل بين السر والعلانية

نظرت في الأدلة على الحق سبحانه وتعالى فوجدتها أكثر من الرمل ورأيت من أعجبها أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله عز وجل فيظهره الله سبحانه عليه ولو بعد حين وينطق الألسنة به وإن لم يشاهده الناس‏.‏

وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب وذلك ليعلم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل ولا ينفع من قدره وقدرته حجاب ولا استتار ولا يضاع لديه عمل‏.‏

وكذلك يخفي الإنسان الطاعة فتظهر عليه ويتحدث الناس بها وبأكثر منها حتى إنهم لا وإن قلوب الناس لتعرف حال الشخص وتحبه أو تأباه وتذمه أو تمدحه وفق ما يتحقق بينه وبين الله تعالى فإنه يكفيه كل هم ويدفع عنه كل شر‏.‏

وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر الحق إلا انعكس مقصوده وعاد حامده ذاماً‏.‏

 فصل السابقون الأولون

تأملت الأرض ومن عليها بعين فكري فرأيت خرابها أكثر من عمرانها‏.‏

ثم نظرت في المعمور منها فوجدت الكفار مستولين على أكثره ووجدت أهل الإسلام في الأرض قليلاً بالإضافة إلى الكفار‏.‏

ثم تأملت المسلمين فرأيت الأكساب قد شغلت جمهورهم عن الرازق وأعرضت بهم عن العلم الدال عليه‏.‏

فالسلطان مشغول بالأمر والنهي واللذات العارضة له ومياه أغراضه جارية لا شكر لها‏.‏

ولا يتلقاه أحد بموعظة بل بالمدحة التي تقوي عنده هوى النفس‏.‏

وإنما ينبغي أن تقاوم الأمراض بأضدادها‏.‏

كما قال عمر بن المهاجر‏:‏ قال لي عمر بن عبد العزيز‏:‏ إذ رأيتني قد حدت عن الحق فخذ وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا‏.‏

فأحوج الخلق إلى النصائح والمواعظ السلطان‏.‏

وأما جنوده فجمهورهم في سكر الهوى وزينة الدنيا وقد انضاف إلى ذلك الجهل وعدم العلم فلا يؤلمهم ذنب ولا ينزعجون من لبس حرير أو شرب خمر حتى ربما قال بعضهم‏:‏ إيش يعمل الجندي‏.‏

أيلبس القطن‏.‏

ثم أخذهم للأشياء من غير وجهها فالظلم معهم كالطبع‏.‏

وأرباب البوادي قد غمرهم الجهل وكذلك أهل القرى‏.‏

ما أكثر تقلبهم في الأنجاس وتهوينهم لأمر الصلوات وربما صلت المرأة منهن قاعدة‏.‏

ثم نظرت في التجار فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص حتى لا يرون سوى وجوه الكسب كيف كانت وصار الربا في معاملتهم فاشياً فلا يبالي أحدهم من أين تحصل له الدنيا‏.‏

وهم في باب الزكاة مفرطون ولا يستوحشون من تركها إلا من عصم الله‏.‏

ثم نظرت في أرباب المعاش فوجدت الغش في معاملاتهم عاماً والتطفيف والبخس وهم مع هذا مغمورون بالجهل‏.‏

ورأيت عامة من له ولد يشغله ببعض هذه الأشغال طلباً للكسب قبل أن يعرف ما يجب عليه ثم نظرت في أحوال النساء فرأيتهن قليلات الدين عظيمات الجهل ما عندهم من الآخرة خبر إلا من عصم الله‏.‏

فقلت‏:‏ واعجباً فمن بقي لخدمة الله عز وجل ومعرفته‏.‏

فنظرت فإذا العلماء والمتعلمون والعباد والمتزهدون‏.‏

فتأملت العباد والمتزهدين فرأيت جمهورهم يتعبد بخير علم ويأنس إلى تعظيمه وتقبيل يده وكثرة أتباعه حتى إن أحدهم لو اضطر إلى أن يشتري حاجة من السوق لم يفعل لئلا ينكسر جاهه‏.‏

ثم تترقى بهم رتبة الناموس إلى أن لا يعودوا مريضاً ولا يشهدوا جنازة إلا أن يكون عظيم القدر عندهم‏.‏

ولا يتزاورون بل ربما ضن بعضهم على بعض بلقاء فقد صارت النواميس كالأوثان يعبدونها ولا يعلمون‏.‏

وفيهم من يقدم على الفتوى بجهل لئلا يخل بناموس التصدر ثم يعيبون العلماء لحرصهم على الدنيا ولا يعلمون أن المذموم من الدنيا ما هم فيه لا تناول المباحات‏.‏

ثم تأملت العلماء والمتعلمين‏.‏

فرأيت القليل من المتعلمين عليه أمارة النجابة لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به وجمهورهم يطلب منه ما يصيره شبكة للكسب إما ليأخذ به قضاء مكان أو ليصير به قاضي بلد أو قدر ما يتميز به عن أبناء جنسه ثم يكتفي‏.‏

ثم تأملت العلماء فرأيت أكثرهم يتلاعب به الهوى ويستخدمه فهو يؤثر ما يصده العلم عنه ويقبل على ما ينهاه ولا يكاد يجب ذوق معاملة لله سبحانه وإنما همته أن يقول وحسب‏.‏

إلا أن الله لا يخلي الأرض من قائم له بالحجة جامع بين العلم والعمل‏.‏

عارف بحقوق الله تعالى خائف منه‏.‏

فذلك قطب الدنيا ومتى مات أخلف الله عوضه‏.‏

وربما لم يمت حتى يرى من يصلح للنيابة عنه في كل نائبة‏.‏

ومثل هذا لا تخلو الأرض منه‏.‏

فهو بمقام النبي في الأمة‏.‏

وهذا الذي أصفه يكون قائماً بالأصول حافظاً للحدود وربما قل علمه أو قلت معاملته‏.‏

فأما الكاملون في جميع الأدوات فيندر وجودهم فيكون في الزمان البعيد منهم واحد‏.‏

ولقد سبرت السلف كلهم فأردت أن أستخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار من المجتهدين وبين العمل حتى صار قدوة للعابدين فلم أر أكثر من ثلاثة‏:‏ أولهم الحسن البصري وثانيهم سفيان الثوري وثالثهم أحمد بن حنبل‏.‏

وقد أفردت لأخبار كل واحد منهم كتاباً وما أنكر على من ربعهم بسعيد بن المسيب‏.‏

وإن كان في السلف سادات إلا أن أكثرهم غلب عليه فن فنقص من الآخر فمنهم من غلب عليه العلم ومنهم من غلب عليه العمل وكلا هؤلاء كان له الحظ الوافر من العلم والنصيب ولا يأس من وجود من يحذو حذوهم وإن كان الفضل بالسبق لهم‏.‏

فقد أطلع الله عز وجل الخضر على ما خفى من موسى عليهما السلام‏.‏

فخزائن الله مملوءة وعطاؤه لا يقف على شخص‏.‏

ولقد حكي لي عن ابن عقيل أنه كان يقول عن نفسه‏:‏ أنا عملت في قارب ثم كسر وهذا غلط فمن أين له فكم معجب بنفسه كشف له من غيره ما عاد يحقر نفسه على ذلك وكم من متأخر سبق متقدماً وقد قيل‏:‏ إن الليالي والأيام حاملةٌ وليس يعلم غير اللّه ما تلد فصل جهادا لهوى رأيت ميل النفس إلى الشهوات زائداً في المقدار حتى إنها إذا مالت مالت بالقلب والعقل والذهن فلا يكاد المرء ينتفع بشيء من النصح‏.‏

فصحت بها يوماً وقد مالت بكليتها إلى شهوة‏:‏ ويحك‏!‏ قفي لحظة أكلمك كلمات ثم افعلي ما بدا لك‏.‏

قالت‏:‏ قل أسمع‏.‏

قلت‏:‏ قد تقرر قلة ميلك إلى المباحات من الشهوات وأما جل ميلك فإلى المحرمات‏.‏

وأما أكشف لك عن الأمرين فربما رأيت الحلوين مرين‏.‏

أما المباحات من الشهوات فمطلقة لك ولكن طريقها صعب لأن المال قد يعجز عنها والكسب قد لا يحصل معظمها والوقت الشريف يذهب بذلك‏.‏

ثم شغل القلب بها وقت التحصيل وفي حالة الحصول وبحذر الفوات‏.‏

ثم ينغصها من النقص ما لا يخفى على مميز وإن كان مطعماً فالشبع يحدث آفات وإن كان شخصاً فالملل أو الفراق أو سوء الخلق‏.‏

ثم ألذ النكاح أكثره إيهاناً للبدن إلى غير ذلك مما يطول شرحه‏.‏

وأما المحرمات‏:‏ فتشتمل على ما أشرنا إليه من المباحات وتزيد عليها بأنها آفة العرض ومظنة عقاب الدنيا وفضيحتها وهناك وعيد الآخرة ثم الجزع كلما ذكرها التائب‏.‏

وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة‏.‏

ألا ترين إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلاً لأنه قهر‏.‏

بخلاف غالب الهوى فإنه يكون قوي القلب عزيزاً لأنه قهر‏.‏

فالحذر الحذر من رؤية المشتهى بعين الحسن كما يرى اللص لذة أخذ المال من الحرز ولا يرى بعين فكره القطع‏.‏

وليفتح عين البصيرة لتأمل العواقب واستحالة اللذة نغصة وانقلابها عن كونها لذة إما لملل أو لغيره من الآفات أو لانقطاعها بامتناع الحبيب‏.‏

فتكون المعصية الأولى كلقمة تناولها جائع فما ردت كلب الجوع بل شهت الطعام‏.‏

وليتذكر الإنسان لذة قهر الهوى مع تأمل فوائد الصبر عنه‏.‏

فمن وفق لذلك كانت سلامته قريبة منه‏.‏

 

فصل حجب العيش

خطر لي خاطر والمجلس قد طاب والقلوب قد حضرت والعيون جارية والرؤوس مطرقة والنفوس قد ندمت على تفريطها والعزائم قد نهضت لإصلاح شؤونها وألسنة اللوم تعمل في الباطل على تضييع الحزم وترك الحذر فقلت لنفسي‏:‏ ما بال هذه اليقظة لا تدوم فإني أرى النفس واليقظة في المجلس متصادقين متصافيين فإذا قمنا عن هذه التربة وقعت الغربة‏.‏

فتأملت ذلك فرأيت أن النفس ما تزال متيقظة والقلب ما يزال عارفاً غير أن القواطع كثيرة والفكر الذي ينبغي استعماله في معرفة الله سبحانه وتعالى قد كل مما يستعمل في اجتلاب الدنيا وتحصيل حوائج النفوس والقلب منغمس في ذلك والبدن أسير مستخدم‏.‏

وبينما الفكر يجول في اجتلاب الطعام والشراب والكسوة وينظر في صدد ذلك وما يدخره لغده وسنته إذا هو مهتم بخروج الفضلات المؤذية - ومنها المني - فاحتاج إلى النكاح فعلم أنه لا يصح إلا باكتساب كسب الدنيا‏.‏

فتفكر في ذلك وعمل بمقتضاه‏.‏

ثم جاء الولد فاهتم به وله وإذا الفكر عامل في أصول الدنيا وفروعها‏.‏

فإذا حضر الإنسان المجلس فإنه لا يحضر جائعاً ولا حاقناً‏.‏

بل يحضره جامعاً لهمته ناسياً ما كان من الدنيا على ذكره‏.‏

فيخلو الوعظ بالقلب فيذكره بما ألف ويجذبه بما عرف فينهض عمال القلب في زوارق عرفانه‏.‏

فيحضرون النفس إلى باب المطالبة بالتفريط ويؤاخذون الحس بما مضى من العيوب فتجري عيون الندم وتنعقد عزائم الاستدراك‏.‏

ولو أن هذه النفس خلت عن المعهودات التي وصفتها لتشاغلت بخدمة باريها‏.‏

ولو وقعت في سورة حبه لاستوحشت عن الكل شغلاً بقربه‏.‏

ولهذا اعتمد الزهاد الخلوات وتشاغلوا بقطع المعوقات وعلى قدر مجاهدتهم في ذلك نالوا من الخدمة مرادهم كما أن الحصاد على مقدار البذر‏.‏

غير أني تلمحت في هذه الحالة - دقيقة - وهو أن النفس لو دامت لها اليقظة لوقعت فيما هو شر من فوت ما فاتها‏.‏

وهو العجب بحالها والاحتقار لجنسها‏.‏

وربما ترقت بقوة علمها وعرفانها إلى دعوى‏:‏ لي وعندي وأستحق‏.‏

فتركها في حومة ذنوبها تتخبط‏.‏

فإذا وقفت على الشاطىء قامت بحق ذلة العبودية وذلك أولى لها‏.‏

هذا حكم الغالب من الخلق ولذلك شغلوا عن هذا المقام‏.‏

فمن بذر فصلح له فلا بد له من هفوة تراقبها عين الخوف بها تصح له عبوديته وتسلم له عبادته‏.‏

وإلى هذا المعنى أشار الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏ لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ‏"‏‏.‏

فصل من شطحات التصوف تفكرت فرأيت أن حفظ المال من المتعين وما يسميه جهلة المتزهدين توكلاً من إخراج ما في اليد ليس بالمشروع‏.‏

فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك‏:‏ ‏"‏ أمسك عليك بعض مالك أو كما قال له ‏"‏‏.‏

وقال لسعد‏:‏ ‏"‏ لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس ‏"‏‏.‏

فإن اعترض جاهل فقال‏:‏ فقد جاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله‏.‏

فالجواب أن أبا بكر فمن كان على هذه الصفة لا أذم إخراجه لماله وإنما الذم متطرق إلى من يخرج ماله ليس من أرباب المعائش‏.‏

أو يكون من أولئك إلا أنه ينقطع عن المعاش فيبقى كلا على الناس يستعطيهم ويعتقد أنه على الفتوح وقلبه متعلق بالخلق وطمعه ناشب فيهم‏.‏

ومتى حرك بابه نهض قلبه‏.‏

وقال‏:‏ رزق قد جاء‏.‏

وهذا أمر قبيح بمن يقدر به على المعاش وإن لم يقدر كان إخراج ما يملك أقبح لأنه يتعلق قلبه بما في أيدي الناس‏.‏

وربما ذل لبعضهم أو تزين له بالزهد وأقل أحواله أن يزاحم الفقراء والمكافيف والزمنى في الزكاة‏.‏

فعليك بالشرب الأول فانظر هل فيهم من فعل ما يفعله جهلة المتزهدين‏.‏

وقد أشرت في أول هذا إلى أنهم كسبوا وخلفوا الأموال فرد إلى الشرب الأول الذي لم يطرق فإنه الصافي‏.‏

واحذر من المشارع المطروقة بالآراء الفاسدة الخارجة في المعنى على الشريعة مذعنة بلسان حالها أن الشرع ناقص يحتاج إلى ما يتم به‏.‏

فإذا أهملت ذلك كان سبباً لوقوفك عن السير‏.‏

وقد رئي سلمان رضي الله عنه يحمل طعاماً على عاتقه فقيل له‏:‏ أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت‏.‏

وقال سفيان الثوري‏.‏

إذا حصلت قوت شهر فتعبد‏.‏

وقد جاء أقوام ليس عندهم سوى الدعاوي فقالوا‏:‏ هذا شك في الرازق والثقة به أولى‏.‏

فإياك وإياهم‏.‏

وربما ورد مثل هذا عن بعض صدور الزهاد من السلف فلا يعول عليه ولا يهولنك خلافهم‏.‏

فقد قال أبو بكر المروزي‏:‏ سمعت أحمد بن حنبل يرغب في النكاح‏.‏

فقلت له‏:‏ قال ابن أدهم فما تركني أتمم حتى صاح علي وقال‏:‏ أذكر لك حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتأتيني ببنيات الطريق‏.‏

واعلم وفقك الله‏:‏ أنه لو رفض الأسباب شخص يدعي التزهد‏.‏

وقال‏:‏ لا آكل ولا أشرب ولا أقوم من الشمس في الحر ولا استدفيء من البرد كان عاصياً بالإجماع‏.‏

وكذلك لو قال وله عائلة‏:‏ لا أكتسب ورزقهم على الله تعالى‏:‏ فأصابهم أذى كان آثماً‏.‏

كما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ‏"‏‏.‏

واعلم أن الاهتمام بالكسب يجمع الهم ويفرغ القلب ويقطع الطمع في الخلق فإن الطبع له حق يتقاضاه‏.‏

وقد بين الشرع ذلك فقال‏:‏ إن لنفسك عليك حقاً وإن لعينك عليك حقاً‏.‏

ومثال الطبع مع المريد السالك كمثل كلب لا يعرف الطارق فكل من رآه يمشي نبح عليه فإن ألقى إليه كسرة سكت عنه‏.‏

فالمراد من الاهتمام بذلك جمع الهم لا غير فافهم هذه الأصول فإن فهمها مهم‏.‏

‏.‏

 

فصل الشهوات مهلكة

تأملت في شهوات الدنيا فرأيتها مصائد هلاك وفخوخ تلف‏.‏

فمن قوي عقله على طبعه وحكم عليه يسلم ومن غلب طبعه فيا سرعة هلكته‏.‏

ولقد رأيت بعض أبناء الدنيا كان يتوق في التسري‏.‏

ثم يستعمل الحرارات المهيجة للباه فما لبث أن انحلت حرارته الغريزية وتلف‏.‏

ولم أر في شهوات النفس أسرع هلاكاً من هذه الشهوة فإنه كلما مال الإنسان إلى شخص مستحسن أوجب ذلك حركة الباه زائداً عن العادة‏.‏

وإذا رأى أحسن منه زادت الحركة وكثر خروج المني زائداً عن الأول فيفنى جوهر الحياة أسرع شيء‏.‏

وبالضد من هذا أن تكون المرأة مستقبحة فلا يوجب نكاحها خروج الفضلة المؤذية كما ينبغي فيقع التأذي بالاحتباس وقوة التوق إلى منكوح‏.‏

وكذلك المفرط في الأكل فإنه يجني على نفسه كثيراً من الجنايات والمقصر في مقدار القوت كذلك فعلمت أن أفضل الأمور أوساطها‏.‏

والدنيا مفازة فينبغي أن يكون السابق فيها العقل فمن سلم زمام راحلته إلى طبعه وهواه فيا عجلة تلفه - هذا فيما يتعلق بالبدن والدنيا - فقس عليه أمر الآخرة فافهم‏.‏

 

فصل النجاة في العلم

بلغني عن بعض زهاد زماننا أنه قدم إليه طعام فقال‏:‏ لا آكل‏.‏

فقيل له‏:‏ لم‏.‏

لأن نفسي تشتهيه وأنا منذ سنين ما بلغت نفسي ما تشتهي‏.‏

فقلت‏:‏ لقد خفيت طريق الصواب عن هذا من وجهين وسبب خفائها عدم العلم‏.‏

أما الوجه الأول‏:‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على هذا ولا أصحابه وقد كان عليه ودخل فرقد السبخي على الحسن وهو يأكل الفالوذج فقال‏:‏ يا فرقد ما تقول في هذا فقال لا آكله ولا أحب من أكله‏.‏

فقال الحسن‏:‏ لعاب النحل للباب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم‏.‏

وجاء رجل إلى الحسن فقال‏:‏ إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج‏.‏

فقال‏:‏ ولم قال يقول‏:‏ لا أؤدي شكره فقال‏:‏ إن جارك جاهل وهل يؤدي شكر الماء البارد‏.‏

وكان سفيان الثوري‏:‏ يحمل في سفره الفالوذج‏.‏

والحمل المشوي ويقول‏:‏ إن الدابة إذا أحسن إليها عملت‏.‏

وما حدث في الزهاد بعدهم من هذا الفن فأمور مسروقة من الرهبانية وأنا خائف من قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لا تُحَرِّمُو طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُم ولاَ تَعْتَدُوا ‏"‏‏.‏

ولا يحفظ عن أحد من السلف الأول من الصحابة من هذا الفن شيء إلا أن يكون ذلك لعارض‏.‏

وسبب ما يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ أنه اشتهى شيئاً فآثر به فقيراً وأعتق جاريته رميثة وقال‏:‏ إنها أحب الخلق إلي فهذا وأمثاله حسن لأنه إيثار بما هو أجود عند النفس من غيره وأكثر لها من سواه‏.‏

فأما من دام على مخالفتها على الإطلاق فإنه يعمي قلبها ويبلد خواطرها ويشتت عزائمها فيؤذيها أكثر مما ينفعها‏.‏

وقد قال إبراهيم بن أدهم‏:‏ إن القلب إذا أكره عمي وتحت مقالته سر لطيف وهو أن الله عز وجل قد وضع طبيعة الآدمي على معنى عجيب وهو أنها تختار الشيء من الشهوات مما يصلحها فتعلم باختيارها له صلاحه وصلاحها به‏.‏

وقد قال حكماء الطب‏:‏ ينبغي أن يفسح للنفس فيما تشتهي من المطاعم وإن كان فيه نوع ضرر لأنها إنما تختار ما يلائمها فإذا قمعها الزاهد في مثل هذا عاد على بدنه بالضرر‏.‏

ولولا جواذب الباطن من الطبيعة ما بقي البدن فإن الشهوة للطعام تثور فإذا وقعت الغنية بما يتناول كفت الشهوة‏.‏

فالشهوة مريد ورائد ونعم الباعث هي على مصلحة البدن‏.‏

غير أنها إذا أفرطت وقع الأذى ومتى منعت ما تريد على الإطلاق مع الأمن من فساد العاقبة عاد ذلك بفساد أحوال النفس ووهن الجسم‏.‏

واختلاف السقم الذي تتداعى به الجملة مثل أن يمنعها الماء عند اشتداد العطش والغذاء عند الجوع والجماع عند قوة الشهوة والنوم عند غلبته حتى إن المغتم إذا لم يتروح بالشكوى قتله الكمد‏.‏

فهذا أصل إذا فهمه هذا الزاهد علم أنه قد خالف طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏

من حيث النقل وخالف الموضوع من حيث الحكمة‏.‏

ولا يلزم على هذا قول القائل‏:‏ فمن أين يصفو المطعم لأنه إذا لم يصف كان الترك ورعاً وإنما الكلام في المطعم الذي ليس فيه ما يؤذي في باب الورع وكان ما شرحته جواباً للقائل - ما أبلغ نفسي شهوة على الإطلاق‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أني أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك فصار يشتهي أن لا يتناول وللنفس في هذا مكر خفي ورياء دقيق فإن سلمت من الرياء للخلق كانت الآفة من جهة تعلقها بمثل هذا الفعل وإدلالها في الباطن به فهذه مخاطرة وغلط‏.‏

وربما قال بعض الجهال‏:‏ هذا صد عن الخير والزهد‏.‏

وليس كذلك فإن الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ‏"‏‏.‏

ولا ينبغي أن يغتر بعبادة جريج ولا بتقوى ذي الحويصرة ولقد دخل المتزهدون في طرق لم يسلكها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه‏.‏

من إظهار التخشع الزائد في الحد والتنوق في تخشين الملبس وأشياء صار العوام يستحسنونها‏.‏

وصارت لأقوام كالمعاش يجتنون من أرباحها تقبيل اليد وتوفير التوقير وحراسة الناموس‏.‏

وقد كان ابن سيرين يضحك بين الناس قهقهة وإذا خلا بالليل فكأنه قتل أهل القرية‏.‏

فنسأل الله تعالى علماً نافعاً فهو الأصل فمتى حصل أوجب معرفة المعبود عز وجل وحرك إلى خدمته بمقتضى ما شرعه وأحبه وسلك بصاحبه طريق الإخلاص‏.‏

وأصل الأصول‏:‏ العلم وأنفع العلوم النظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏:‏ ‏"‏ أُولئكَ الّذِينَ هدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ ‏"‏‏.‏

 

فصل تربية النفس

تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد ورأيت خلقاً من العلماء والزهاد لا يفهمون معناه لأن فيهم من منعها حظوظها على الإطلاق وذلك غلط من وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه رب مانع لها شهوة أعطاها بالمنع أوفى منها‏.‏

مثل أن يمنعها مباحاً فيشتهر بمنعه إياها ذلك فترضى النفس بالمنع لأنها قد استبدلت به المدح‏.‏

وأخفى من ذلك أن يرى - بمنعه إياها ما منع - أنه قد فضل من سواه ممن لم يمنعها ذلك وهذه دفائن تحتاج إلى منقاش فهم يخلصها‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أننا قد كلفنا حفظها ومن أسباب حفظها ميلها إلى الأشياء التي تقيمها فلا بد من إعطائها ما يقيمها وأكثر ذلك أو كله مما تشتهيه‏.‏

ونحن كالوكلاء في حفظها‏.‏

لأنها ليست لنا بل هي وديعة عندنا فمنعها حقوقها على الإطلاق خطر‏.‏

ثم رب شد أوجب استرخاء ورب مضيق على نفسه فرت منه فصعب عليه تلافيها‏.‏

وإنما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو به العافية ويذوب في المرارة قليلاً من الحلاوة ويتناول من الأغذية مقدار ما يصفه الطبيب‏.‏

ولا تحمله شهوته على موافقة غرضها من مطعم ربما جر جوعاً ومن لقمة ربما حرمت لقمات‏.‏

فكذلك المؤمن العاقل لا يترك لجامها ولا يهمل مقودها - بل يرخي لها في وقت والطول بيده‏.‏

فما دامت على الجادة لم يضايقها في التضييق عليها‏.‏

فإذا رآها قد مالت ردها باللطف فإن ونت وأبت فبالعنف‏.‏

ويحبسها في مقام المداراة كالزوجة التي مبني عقلها على الضعف والقلة فهي تدارى عند نشوزها بالوعظ فإن لم تصلح فبالهجر فإن لم تستقم فبالضرب‏.‏

وليس في سياط التأديب أجود من سوط عزم‏.‏

هذه مجاهدة من حيث العمل فأما من حيث وعظها وتأنيبها فينبغي لمن رآها تسكن للخلق وتتعرض بالدناءة من الأخلاق أن يعرفها تعظيم خالقها لها فيقول‏:‏ ألست التي قال فيك‏:‏ خلقتك بيدي وأسجدت لك ملائكتي وارتضاك للخلافة في أرضه وراسلك واقترض منك واشترى‏.‏

فإن رآها تتكبر قال لها‏:‏ هل أنت إلا قطرة من ماء مهين تقتلك شرقة وتؤلمك بقة‏.‏

وإن رأى تقصيرها عرفها حق الموالي على العبيد‏.‏

وإن ونت في العمل حدثها بجزيل الأجر‏.‏

وإن مالت إلى الهوى خوفها عظيم الوزر ثم يحذرها عاجل العقوبة الحسية كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُم وَأَبْصَارَكُمْ ‏"‏ والمعنوية كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتَي الّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأرضِ بِغَيرِ الْحَقِّ ‏"‏‏.‏

فهذا جهاد بالقول وذاك جهاد بالفعل‏.‏

 

فصل علة الإبطاء في الإجابة

رأيت من البلاء العجاب أن المؤمن يدعو فلا يجاب فيكرر الدعاء وتطول المدة ولا يرى أثراً وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب‏.‏

ولقد عرض لي من هذا الجنس‏.‏

فإنه نزلت بي نازلة‏.‏

فدعوت وبالغت فلم أر الإجابة فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده‏.‏

فتارة يقول‏:‏ الكرم واسع والبخل معدوم فما فائدة تأخير الجواب‏.‏

فقلت‏:‏ إخسأ يا لعين فما أحتاج إلى تقاضي ولا أرضاك وكيلاً‏.‏

ثم عدت إلى نفسي فقلت‏:‏ إياك ومساكنة وسوسته فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدر في محاربة العدو لكفي في الحكمة‏.‏

قالت‏:‏ فسلني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة‏.‏

فقلت‏:‏ قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك وللمالك التصرف بالمنع والعطاء فلا وجه للاعتراض عليه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة فربما رأيت الشيء مصلحة والحق أن الحكمة لا تقتضيه وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب من أشياء تؤذي في الظاهر بقصد بها المصلحة فلعل هذا من ذاك‏.‏

والثالث‏:‏ أنه قد يكون التأخير مصلحة والاستعجال مضرة وقد قال النبي صلى الله عليه والرابع‏:‏ أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك فربما يكون في مأكولك شبهة أو قلبك وقت الدعاء في غفلة أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه‏.‏

فابحثي عن بعض هذه الأسباب لعلك توقنين بالمقصود كما روي عن أبي يزيد رضي الله عنه‏:‏ أنه نزل بعض الأعاجم في داره فجاء فرآه فوقف بباب الدار وأمر بعض أصحابه فدخل فقلع طيناً جديداً قد طينه فقام الأعجمي وخرج‏.‏

فسئل أبو يزيد عن ذلك فقال‏:‏ هذا الطين من وجه فيه شبهة فلما زالت الشبهة زال صاحبها‏.‏

وعن إبراهيم الخواص رحمة الله عليه أنه خرج لإنكار منكر فنبحه كلب له فمنعه أن يمضي فعاد ودخل المسجد وصلى ثم خرج فبصبص الكلب له فمضى وأنكر فزال المنكر‏.‏

فسئل عن تلك الحال فقال‏:‏ كان عندي منكر فمنعني الكلب فلما عدت تبت من ذلك فكان ما رأيتم‏.‏

والخامس‏:‏ أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب فربما كان في حصوله زيادة إثم أو تأخير عن مرتبة خير فكان المنع أصلح‏.‏

وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو فهتف به هاتف‏:‏ إنك إن غزوت أسرت والسادس‏:‏ أنه ربما كان فقد ما تفقدينه سبباً للوقوف على الباب واللجأ وحصوله سبباً للاشتغال به عن المسؤول‏.‏

وهذا الظاهر بدليل أنه لولا هذه النازلة ما رأيناك على باب اللجأ‏.‏

فالحق عز وجل علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه فلذعهم في خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه يستغيثون به فهذا من النعم في طي البلاء‏.‏

وإنما البلاء المحض ما يشغلك عنه فأما ما يقيمك بين يديه ففيه جمالك‏.‏

وقد حكي عن يحيى البكاء أنه رأى ربه عز وجل في المنام فقال‏:‏ يا رب كم أدعوك ولا تجيبني فقال‏:‏ يا يحيى إني أحب أن أسمع صوتك‏.‏

وإذا تدبرت هذه الأشياء تشاغلت بما هو أنفع لك من حصول ما فاتك من رفع خلل أو اعتذار من زلل أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب‏.‏

 

فصل علاج البلايا من نزلت به

بلية فأراد تمحيقها فليتصورها أكثر مما هي تهن‏.‏

وليتخيل ثوابها وليتوهم نزول أعظم منها ير الربح في الاقتصار عليها‏.‏

وليعلم أن مدة مقامها عنده كمدة مقام الضيف يتفقد حوائجه في كل لحظة فيا سرعة انقضاء مقامه ويا لذة مدائحه وبشره في المحافل ووصف المضيف بالكرم‏.‏

فكذلك المؤمن في الشدة ينبغي أن يراعي الساعات ويتفقد فيها أحوال النفس ويتلمح الجوارح مخافة أن يبدو من اللسان كلمة أو من القلب تسخط فكأن قد لاح فجر الأجر فانجاب ليل البلاء ومدح الساري بقطع الدجى فما طلعت شمس الجزاء إلا وقد وصل إلى منزل السلامة‏.‏

 

فصل خطر العلم مع قلة العمل

لما رأيت نفسي في العلم حسناً فهي تقدمه على كل شيء وتعتقد الدليل وتفضل ساعة التشاغل به على ساعات النوافل وتقول‏:‏ أقوى دليل لي على فضله على النوافل‏.‏

أني رأيت كثيراً ممن شغلتهم نوافل الصلاة والصوم عن نوافل العلم قد عاد ذلك عليهم بالقدح في الأصول فرأيتها في هذا الاتجاه على الجادة السليمة والرأي الصحيح‏.‏

إلا أني رأيتها واقفة مع صورة التشاغل بالعلم فصحت بها فما الذي أفادك العلم‏.‏

أين الخوف أين القلق أين الحذر‏.‏

أما كان الرسول صلى الله عليه وسلم سيد الكل ثم إنه قام حتى ورمت قدماه‏.‏

أما كان أبو بكر رضي الله عنه شجي النشيج كثير البكاء‏.‏

أما كان في خد عمر رضي الله عنه خطان من آثار الدموع‏.‏

أما كان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن في ركعة‏.‏

أما كان علي رضي الله عنه يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع‏.‏

ويقول‏:‏ يا دنيا غري غيري‏.‏

أما كان الحسن البصري يحيا على قوة القلق‏.‏

أما كان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد فلم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة‏.‏

أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر‏.‏

أما قالت ابنة الربيع بن خيثم له‏:‏ ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام‏.‏

فقال‏:‏ إن أباك يخاف عذاب البيات‏.‏

أما كان أبو مسلم الخولاني يعلق سوطاً في المسجد يؤدب به نفسه إذا فتر‏.‏

أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة وكان يقول‏:‏ والفاه سبقني العابدون وقطع بي‏.‏

أما صام منصور بن المعتمر أربعين سنة‏.‏

أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف أما تعلمين أخيار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم أو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد‏.‏

احذري من الإخلاد إلى صورة العلم مع ترك العمل به فإنها حالة الكسالى الزمنى‏:‏ وخذ لك منك على مهلة ومقبل عيشك لم يدبر وخف هجمة لا تقيل العثا - ر وتطوي الورود على المصدر ومثّل لنفسك أي الرعي - ل يضمك في حلبة المحشر فصل زهاد جهلة مما يزيد العلم عندي فضلاً أن قوماً تشاغلوا بالتعبد عن العلم فوقفوا عن الوصول إلى حقائق الطلب‏.‏

فروي عن بعض القدماء أنه قال لرجل‏:‏ يا أبا الوليد إن كنت أبا الوليد يتورع أن يكنيه ولا ولد له‏!‏‏!‏‏.‏

ولو أوغل هذا في العلم لعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كنى صهيباً أبا يحيى وكنى طفلاً فقال‏:‏ يا أبا عمير ما فعل النغير‏.‏

وقال بعض المتزهدين‏:‏ قيل لي يوماً‏:‏ كل من هذا اللبن‏.‏

فقلت‏:‏ هذا يضرني ثم وقفت بعد مدة عند الكعبة فقلت‏:‏ اللهم إنك تعلم أني ما أشركت بك طرفة عين فهتف بي هاتف ولا يوم اللبن‏.‏

وهذا لو صح جاز أن يكون تأديباً له لئلا يقف مع الأسباب ناسياً للمسبب وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم قد قال‏:‏ ‏"‏ ما زالت أكلة خيبر تعاودني حتى الآن قطعت أبهري‏.‏

وقال‏:‏ ما نفعني مال كمال أبي بكر ‏"‏‏.‏

ومن المتزهدين أقوام يرون التوكل قطع الأسباب كلها وهذا جهل بالعلم‏.‏

فإن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ دخل الغار وشاور الطبيب ولبس الدرع وحفر الخندق ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي وكان كافراً وقال لسعد‏:‏ لأن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس‏.‏

فالوقوف مع الأسباب مع نسيان المسبب غلط والعمل على الأسباب مع تعلق القلب بالمسبب هو المشروع‏.‏

وكل هذه الظلمات إنما تقطع بمصباح العلم‏.‏

ولقد ضل من مشى في ظلمة الجهل أو في زقاق الهوى‏.‏

ما أزال أتعجب ممن يرى تفضيل الملائكة على الأنبياء والأولياء فإن كان التفضيل بالصور فصورة الآدمي أعجب من ذوي أجنحة‏.‏

وإن تركت صورة الآدمي لأجل أوساخها المنوطة بها فالصورة ليست الآدمي إنما هي قالب‏.‏

ثم قد استحسن منها ما يستقبح في العادة مثل خلوف فم الصائم ودم الشهداء والنوم في الصلاة فبقيت صورة معمورة وصار الحكم للمعنى‏.‏

ألهم مرتبة يحبهم أو فضيلة يباهي بهم‏.‏

وكيف دار الأمر فقد سجدوا لنا‏.‏

وهو صريح في تفضيلنا عليهم فإن كانت الفضيلة بالعلم فقد علمت القصة يوم ‏"‏ لاَ عِلْمَ لَنَا ‏"‏ ‏"‏ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ ‏"‏‏.‏

وإن فضلت الملائكة بجوهرية ذواتهم فجوهرية أرواحنا من ذلك الجنس وعلينا أثقال أعباء الجسم‏.‏

بالله لولا احتياج الراكب إلى الناقة فهو يتوقف لطلب علفها ويرفق في السير بها لطرق أرض مني قبل العشر‏.‏

واعجبا أتفضل الملائكة بكثرة التعبد‏!‏ فما ثم صاد‏.‏

أو يتعجب من الماء إذا جرى أو من منحدر يسرع إنما العجب من مصاعد يشق الطريق ويغالب العقبات‏.‏

بلى قد يتصور منهم الخلاف ودعوى الإلهية‏.‏

لقدرتهم على دك الصخور وشق الأرض لذلك توعدوا‏:‏ ‏"‏ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ‏"‏ لكنهم يعلمون عقوبة الحق فيحذرونه‏.‏

فأما بعدنا عن المعرفة الحقيقية وضعف يقيننا بالناهي وغلبة شهوتنا مع الغفلة‏.‏

يحتاج إلى جهاد أعظم من جهادهم‏.‏

تالله لو ابتلى أحد المقربين بما ابتلينا به ما قدر على التماسك‏.‏

يصبح أحدنا وخطاب الشرع يقول له‏:‏ الكسب لعائلتك واحذر في كسبك‏.‏

وقد تمكن منه ما ليس من فعله كحب الأهل وعلوق الولد بنياط القلب واحتياج بدنه إلى ما لا بد منه‏.‏

فتارة يقال للخليل عليه السلام‏:‏ اذبح ولدك بيدك واقطع ثمرة فؤادك بكفك ثم قم إلى المنجنيق لترمى في النار‏.‏

وتارة يقال لموسى عليه السلام‏:‏ صم شهراً ليلاً ونهاراً‏.‏

ثم يقال للغضبان‏:‏ اكظم وللبصير أغضض ولذي المقول اصمت ولمستلذ النوم تهجد ولمن مات حبيبه اصبر ولمن أصيب في بدنه أشكر وللواقف في الجهاد بين الغمرات‏:‏ لا يحل أن تفر‏.‏

ثم اعلم أن الموت يأتي بأصعب المرارات فينزع الروح عن البدن فإذا نزل فاثبت‏.‏

واعلم أنك فهل للملائكة من هذه الأشياء شيء وهل ثم إلا عبادة ساذجة ليس فيها مقاومة طبع ولا رد هوى‏.‏

وهل هي إلا عبادة صورية بين ركوع وسجود وتسبيح فأين عبادتهم المعنوية من عبادتنا ثم أكثرهم في خدمتنا بين كتبة علينا ودافعين عنا ومسخرين لإرسال الريح والمطر وأكبر وظائفهم الاستغفار لنا‏.‏

فكيف يفضلون علينا بلا علة ظاهرة‏.‏

وإذا ما حكت على محك التجارب طائفة منهم مثل ما روي عن هاروت وماروت خرجوا أقبح من بهرج‏.‏

ولا تظنن أني أعتقد في تعبد الملائكة نوع تقصير لأنهم شديدو الإشفاق والخوف لعلمهم بعظمة الخالق‏.‏

لكن طمأنينة من لم يخطىء تقوي نفسه‏.‏

وانزعاج الغائص في الزلل يرقى روحه إلى التراقي‏.‏

فاعرفوا إخواني شرف أقداركم وصونوا جواهركم عن تدنيسها بلوم الذنوب فأنتم معرض الفضل على الملائكة فاحذروا أن تحطكم الذنوب إلى حضيض البهائم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

 

فصل السلامة في كتاب الله

رأيت كثيراً من الخلق وعالماً من العلماء لا ينتهون عن البحث عن أصول الأشياء التي أمر بعلم جلها من غير بحث عن حقائقها كالروح مثلاً فإن الله تعالى سترها بقوله‏:‏ ‏"‏ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ‏"‏ فلم يقنعوا وأخذوا يبحثون عن ماهيتها ولا يقعون بشيء ولا يثبت لأحد منهم برهان على ما يدعيه وكذلك العقل فإنه موجود بلا شك كما أن الروح موجودة بلا شك كلاهما يعرف بآثاره لا بحقيقة ذاته‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فما السر في كتم هذه الأشياء قلت‏:‏ لأن النفس ما تزال تترقى من حالة إلى حالة فلو اطلعت على هذه الأشياء لترقت إلى خالقها فكان ستر ما دونه زيادة في تعظيمه لأنه إذا كان بعض مخلوقاته لا يعلم كنهه فهو أجل وأعلى‏.‏

ولو قال قائل‏:‏ ما الصواعق وما البرق وما الزلازل‏.‏

قلنا‏:‏ شيء مزعج ويكفي‏.‏

والسر في ستر هذا أنه لو كشفت حقائقه خف مقدار تعظيمه‏.‏

ومن تلمح هذا الفصل علم أنه فصل عزيز فإذا ثبت هذا في المخلوقات فالخالق أجل وأعلى‏.‏

فينبغي أن يوقف في إثباته على دليل وجوده ثم يستدل على جواز بعثه رسله ثم تتلقى أوصافه من كتبه ورسله ولا يزاد على ذلك‏.‏

وإذا قلنا‏:‏ إنه موجود وعلمنا من كلامه أنه سميع بصير حي قادر‏.‏

كفانا هذا في صفاته ولا نخوض في شيء آخر‏.‏

وكذلك نقول‏:‏ متكلم والقرآن كلامه ولا نتكلف ما فوق ذلك‏.‏

ولم يقل السلف‏:‏ تلاوة ومتلو وقراءة ومقروء ولا قالوا‏:‏ استوى على العرش بذاته ولا قالوا‏:‏ ينزل بذاته بل أطلقوا ما ورد من غير زيادة‏.‏

ونقول‏:‏ لما لم يثبت بالدليل ما لا يجوز عليه‏.‏

وهذه كلمات كالمثال فقس عليها جميع الصفات تفز سليماً من تعطيل متخلصاً من تشبيه‏.‏